كَشفٌ جديدٌ يُوضِّح كيفية تأثير الجهاز المناعي على سلوكنا الاجتماعي


يُقلل بروتين "إنترفيرون جاما" من فُرَصِ انتشار الأمراض المُعدية عن طريق تَثبِيط النّشَاط الاجتماعي للأفراد.

لطَالما اعتقدنا أنَّ للدماغِ مَكانةً خاصةً في أجسامنا، حيث يقع هُناك في جُمجُمَته مَعزولًا بشكل شبه كاملٍ عن الجهاز المناعي. ونتمادى في الأمر فنتحدث عن الحاجز الدّمَوي الدمَاغي، وهو حاجز بين الدم الجاري في الشعيرات الدموية الدماغية من جهة وبين السائل الدماغي الشوكي من جهة أخرى، وعن الخاصية الانعزالية لخلايا الدماغ عن الجهاز المناعي، وهي خاصية تَعزِلُ خلايا بعض الأماكن في الجسم كالدماغ والعينين عن الجهاز المناعي فلا يستطيع مُهاجمتها، كما لو كَانَا بوابة نَجمِية لبُعدٍ آخر يحتوي الدماغ، فلا يَعرِفُ ذاك الجهاز المناعي المِسكينُ للوصول إليه سبيلًا.

ومما قيل لنا أيضًا، أن العُصبُونَات، وهي خلايا قابلة للاستثارة كهربيًا وهي المُكون الأساسي للدماغ، ثَمِينةٌ جدًا بحيثُ لا يُمكن تَعرِيضِها بأي حالٍ من الأحوال لاحتمالية الفَقدِ أو الإصابة في قتالٍ بين الفيروسات أو البكتيريا وجُنُود الجهاز المناعي. لذلك وَجَب أنْ يُحاطَ الدماغُ بما يُشبه الفقاعة لحمايته وعزله عن الجميع، فلا عدوى خبيثة تُنقل إليه ولا شأن له بجنود الجهاز المناعي ومَعارِكِهم.
وكما هو الحال في المجال العلمي، فإن الواقع دائمًا ما يكون أكثر تعقيدًا. فنحن نكتشف كُل يومٍ شيئًا جديدًا عن العلاقة ما بين الجهاز العَصبي والمَناعي.

لذا كان يجب علينا أن نَنظُر بتمَعنٍ أكثر وأن نبذل جُهدًا أكبر في دراسة هذا الأمر. فها هي "الحُمَّى"، واحدةٌ من أهم وسائل الدفاع الأساسية للجهاز المناعي ومَعروفٌ عنها أنها تؤثر على مِزاجِ الأفراد وسُلوكهم، وهي أشياءٌ يختص بِها الدماغ ويَتَفرد في التحكم فيها بشكلٍ كامل. فعندما نُصاب بالحُمَّى نشعر بأنَّنا مُختلفون عن طبيعتنا. فنفقد شَهيتنا للطعام، ونُحِسُ أن طاقتنا مُستنزَفة، وتلك الأشياء التي عادةً ما تُثِيرُنَا تُصبح مُمِلة.

ولكن شُعورنا بهذه المشاعر المَرِيرَة ليس مُصادفةً، وليس بسبب ارتفاع درجة حرارة الجسد. فيُمكن لتدريبٍ شاقٍ في يومٍ حارٍ أن يَرفَع من درجة حرارتنا أكثر من الحُمَّى في الأغلب ولكن بالطبع لا يُسبب لنا مثل هذا الخُمول. فتلك المشاعر المُصاحِبة للحُمَّى هي أعراضٌ نفسية، ولكنَّنا لا نُفكر في الأمر بهذه الطريقة. فهي لا تُؤثِّر على مِزاجِنا وعواطفنا فقط، بل تُغير من سلوكنا أيضًا. فغالبًا ما نَلزمُ البيتَ خلال هذه الفترة، ولا نَنخَرط في القيام بأي عملٍ أو حتى الحديث مع الآخرين. فكلُ ما نُريده هو الاستلقاء على سريرٍ وثيرٍ وبعض الراحة والهدوء.

ولكن إن كُنا نكره هذه الأعراض، فرُبَّ ضَارَّة نَافعة. فبهذا الخُمول الذي يدفعُنا للراحة نُوفر مِقدارًا ثمينًا من الطاقة يستخدمه جهازنا المناعي في معركته ضد المرض. فَكم أنقَذَت تِلك الأعراض النَّفسِية من حَيوَاتٍ، ليست فقط بشرية ولكن من عالم الحيوان أيضًا.
ورُبَّما يكون هُناك دورٌ اجتماعيٌ تَلعَبُه الحُمَّى أيضًا.  فبطرحنا على السَّرِيرِ خَامِلين، تُقلل الحُمَّى من تفاعلنا واتصالنا مع الآخرين. وقد يكون هذا التَّثبِيطُ لدَورِ الفردِ الاجتماعي في مصلحة الجميع، حتى إذا ما كان مُصابًا بمَرضٍ مُعدٍ، فإنه سيُساعد في التَقلِيل من فُرص انتقال المرض لشخصٍ آخر ممن نتعامل معهم بصورة مُتكررة وهُم في أغلب الأحيان أفراد عائلتنا.

اكتشف باحثون من جامعة " فيرجينيا" -في بحثهم حول كيفية تغيير النشاط المناعي لسلوكنا الاجتماعي- كيف يُؤثر جزيء بروتين مناعي مُهم جدٍا وهو "إنترفيرون جاما" على السُلوك الاجتماعي للفئران بشكلٍ مباشرٍ وقوي. حيثُ يُعَدُّ "إنترفيرون جاما- IFN-γ" واحدًا من أشهر جزيئات بروتينات الجهاز المناعي. فهو بروتين قويٌ ومُضادٌ للفيروسات يُمكِنُه أنْ يؤثر بشكلٍ واضحٍ ومُباشرٍ على كل خلايا الجسم تقريبًا. فهو يَعملُ كضوءٍ أحمر، حيث يُحذِّر الخلايا من انتشار العدوى، كما يعمل أيضًا كمُنظم لعملية الهُجوم المناعي ضدها.

فالعديد من الخلايا البيضاء في الجسد تُفرز بروتين "إنترفيرون جاما" مُباشرةً عِند رَصدِ أي عدوى. وعندما يُلامِسُ البروتين الخلايا الأخرى، فإنه يُجبرها على اتخاذ موقفٍ دفاعيٍ والمُشاركة في النشاطات الدِّفاعية للجهاز المناعي المُعدة لمُحاربة وإيقاف مصدر العدوى وتدميره. أمَّا مَا توصل إليه الباحثون فهو أنَّ تَغيير المُعدلات الطبيعية لإفراز بروتين "إنترفيرون جاما" تجعل الفئران مُنطَوِية وغير اجتماعية. والأهم هو أن هذا التأثير يكون تأثيرًا مُباشرًا، لا كإحدى تَبِعات الخُمول وقلة الحركة أو تَزَايُد الاضطرابات. فيبدو أن بروتين "إنترفيرون جاما" يؤثر بشكل دقيق على رَغبَة قضاء الوقتِ مع الآخرين. وهكذا فقد بدأ العلماء بوضع بروتين "إنترفيرون جاما" ضمن شبكة اتصال في الدماغ تَربطُ الأنشطة المَناعية بالسلوك الاجتماعي على وجه التحديد، ضاربين بُعُرْض الحائط أي مُفهوم عن الحواجز بين الدِّمَاغ والجهاز المناعي.

هُناك الكثير من التطبيقات الوَاعِدة لمثل هذا الاكتشاف. فكُل الأدلة تُشير إلى أنَّ بروتين "إنترفيرون جاما" يُمكنه العمل على تقليل التعايُش الاجتماعي للثدييات عند مُحاربة أجهزتهم المناعية للعدوى. وقد يَتَعدَّى ارتباط إفرازه بحُدوث الحُمَّى، فهذا الأمر هو من ضِمن السِّمِات الشائعة في عِلم المناعة وهو آليات الدفاع المُتداخِلة للقضاء على العدوى بطُرقٍ مُختلفة. وهذا لأن جهازنا المناعي تَطَوَّر خلال كِفاحٍ لملايين السنين ضد الفيروسات والبكتيريا التي تتطور بدورها أيضًا.

في الحقيقة أعتقد أنه إذا ما تم التَّحقق من هذا الكَشفِ، فسُرعَان ما سيَجدُ مُختصُّو الفيروسات بعض الطُرق التي تستخدمها تلك الفيروسات لتعطيل تأثير بروتين "إنترفيرون جاما" لدفع الفرد المُصاب نحو الاختلاط بالآخرين حتى تُسهِّل وتَزَيد من فُرص انتقال العدوى.

هُناك أيضًا تطبيقات لمثل هذا الكَشف على صَعِيد دراسة أنواع الشخصيات الاجتماعية المُختلفة والتنوع العقلي. فقد بَيَّنتْ دِراسة مُعَمَّقة في هذين الأمرَين أن اضطرابات طيف التوحد، مصطلح يقصد به مجموعة من الاضطرابات النمائية العصبية والتي تسبب عدة مشكلات في المهارات الاجتماعية والتواصلية والعاطفية، إلى تَغيير طريقة تفكيرنا عن طيف التوحد واعتباره ضِمن التنوع العقلي بدلًا عن كونه اضطرابات. والأمر باختصارٍ هو أنَّ الكثيرين في هذه الآونة ينظرون لطيف التوحد على أنه حلقة في سلسلة الشخصيات المُختلفة والتي تَضُم أيضًا أنواع الشخصيات الطبيعية.

يُصبِح التَّطور آلة لإحداث التَّنوُّع عن طريق تلك الطَّفَرَات العشوائية التي تحدثُ في مُوَرِّثاتنا، لذا من المُحتمل أنْ تكون الشخصيات المُختلفة والتَّفَاوت في القدرات العقلية جزء من هذا التَّنوُّع. وكُل هذا يرجع الفضل فيه إلى عبقرية علم الأحياء البشري، فنحن لم نَتَطور لنُصبح نُسَخًا مُتعددةً من بعضنا البعض. فبقابليتنا للتَّكيُّف التي تُميزنا كبشر ومع وجود طاقة الدماغ الهائلة التي تُنير لنا الطريق، نُصبح أكبر جنسٍ مُتعدد المواهب والكفاءات على ظهر الكوكب. ولهذا يُعد التَّنوع ضروريًا.

هذا ولا يكتفي بروتين "إنترفيرون جاما" فقط بدوره الرئيسي أثناء مُكافحة العدوى، ولكن يبدو أنه يَتَعدَّى ذلك بالقيام بالعديد من الأدوار الرئيسية أيضًا والمُختلفة في جسد كل واحدٍ مِنَّا. فقد كان هُناك افتراضٌ بأن عدد الأدوار الرئيسية المُختلفة التي يؤديها بروتين "إنترفيرون جاما" يُمكن أنْ تُفسرَ سبب إصابة البعض بالحساسية المُفرِطة والاستجابات المناعية العنيفة. ويُمكن أن نتوقع منها أيضًا من سينجو من نَوبَة مَرضية لتَعَفُّن الدَّم. ويُتَوَقع أنه يوُجد ترابط بين بروتين "إنترفيرون جاما" وبين تَوعكِ الجسدِ وشحوبه، ولكن الأساس الوِرَاثي لهذا الأمر لم يُكتشف بعد. ومع مَعرِفتنا بأن لبروتين "إنترفيرون جاما" تأثيرًا مُباشرًا على السلوك الاجتماعي، تأتي تطبيقات هذا الاكتشاف والتي يُمكن أن يكون لها دورٌ في تحديد الشخصية ودرجة القدرة العقلية. وإذا كان اختلاف عدد أدوار "إنترفيرون جاما" يرتبط بتَنَوُّع السُلوك الاجتماعي، فإن هذا سيُقدم لنا تفسيرًا عن آليات عمل البروتين.

وعلى الرُغم من هذا، ففي رأيي الشخصي أن الصورة الكاملة والمُحكَمَة للموضوع قد بدأت بالظهور؛ أخذًا في الحُسبان أن الحياة أكثر تعقيدًا مما نظنُها كما ذكرنا في بداية المقال. هذا غير أنَّ تلك الصورة الواضحة التي بدأت في الظهور بدايةً بعِلم الأحياء وانتهاءً بالمناعة والسلوك الاجتماعي، تُحتِّم علينا أن نُصدق بعبقرية التَّطور.

ففي المرة المُقبلة التي تُصاب فيها بعدوى، تذكَّر كيف يُحارب بروتين ""إنترفيرون جاما" من أجل حماية من تُحبهم من حولك، عن طريق التأثير على دِمَاغك وإبعادك عنهم. فبُعدُكَ عنهم حبٌ لهم.


للكاتب: Nathan H. Lents
نُشِر هذا المقال بتاريخ الثامن من أغسطس لعام 2016.
ترجمة: أسامة إسماعيل عبد العليم