أَثَر علوم المسلمين ومعارفهم على إنجلترا (الجزء الأول)


لا شَكَّ في أنَّ "أديلارد أوف باث" كان أول العلماء الإنجليز على الإطلاق. وكان أديلارد مناصِرًا لمعارف المسلمين، وعُرِف عنه أنه كان أكثر العلماء تأثرًا بالعَرَب. و"لأديلارد"، و"دانييل أوف مورلي" دورٌ مِحوَريٌّ في نقل المعرفة العلمية من الحضارة الإسلامية، إلى إنجلترا، وغيرها من الأمم.

أديلارد أوف باث، ودانييل أوف مورلي هما أكثر العلماء الإنجليز تأثيرًا، وليس السبب في ذلك هو أنهما كانا من أوائل العلماء فقط؛ ولكن لأنهما أَدخَلا إلى الحياة الفكرية في إنجلترا، والغرب مُكوِّنات أساسية.
ومن المؤكَّد أنَّ أديلارد أوف باث هو أول العلماء الإنجليز على الإطلاق، ويمكننا القول إنه أكثر مَن نَاصَر معارف المسلمين من بين العلماء الأوائل، مِمَّا جعله أكثر العلماء تأثرًا بالعَرَب. وُلِد أديلارد في مدينة باث ببريطانيا، وتَعلَّم في مدينة تور بفرنسا، ودَرَّس في مدينة لاون بفرنسا. وعَقِب مغادرته لمدينة لاون الفرنسية، أَمضَى أديلارد سبع سنوات في الترحال والدراسة، حيث يمكن ملاحظة زيارته لِصِقلِّية، وسوريا. ومن الممكن أن يكون قد زار إسبانيا، وصقلية قبل عام 1116م، وربما قبل عام 1109م. وزار فلسطين أيضًا في عام 1115م. ثم عاد للغرب في عام 1126م، حيث انْهمَك في نقل عِلمَيّ الفلك والهندسة -اللذين نَهِلَهما من المسلمين- إلى العالم الغربي المسيحي.

كانت أهم مساهمات أديلارد العلمية قائمةً في مجال الرياضيات. ففي بداياته وقبل أن يسافر إلى سوريا وفلسطين وَضَع بحثًا في الأعداد (وفقًا للتصور الغربي). ثم أَتبَعه لاحقًا بترجمة الجداول الفلكية من العربية إلى اللاتينية في عام 1126م والتي وَضَعها الخوارزمي، ونَقَّحها مَسلَمة بن أحمد المجريطي. واحتَوَت تلك الجداول على معلومات عن جيوب الزوايا، وبذلك تَعرَّف الغرب المسيحي على علم حساب المثلثات الذي أسَّسه المسلمون؛ وبالتحديد جيوب الزوايا ووظائف ظل الزاوية.

يقول جورج سارتون (وهو مُؤسِّس مجال الكتابة في تاريخ العلوم) إن أديلارد وبينما كان يكتب تساؤلاته عن الطبيعة، دوَّن أيضًا بحثًا عن فن تدريب الصقور الجارحة؛ وهو أول بحث من نوعه يَصِل إلينا باللغة اللاتينية. ولم يَظهَر فيما كَتَبه أديلارد في هذا الشأن أي تأثيرٍ للعرب؛ مما يُنْبِئنا بأن أديلارد كان قد كَتَب بحثه في فترة مبكرة، أو أن معرفة الشرق بهذا الشأن لم تَصِل إليه. ولكن هذا الأمر الذي لاحظه سارتون يحتاج إلى المزيد من النَّظَر. ويخبرنا سارتون أيضًا أن كل الاحتمالات تشير إلى أن صاحب الاسم المستعار الذي تَرجَم بحث الخوارزمي عن الرياضيات هو أديلارد أيضًا. ويَتَّضِح لنا بذلك أن أديلارد كان عالم رياضيات (مُتَّبِعًا للمدرسة الغربية) في بداية مسيرته العلمية، لكنه أصبح لاحقًا مُتَّبِعًا لنظام العَدِّ العربي، وكان أديلارد أول من اتبع ذلك النهج؛ أو واحدًا من أوائل من اتبعوه. وتمامًا كما فعل بطرس الفونسي ارتَبَط أديلارد ببلاط الملك هنري الأول. وكان لِكلا الرجلين دور مهم في نقل علوم المسلمين لبلاط الملك، وللمملكة كلها، ولغالبية العالم الغربي. وقد عَمِل الاثنان على ترجمة زِيج الخوارزمي ولكن لا يوجد دليل على كونهما تعاونا معًا لإنهاء ترجمته، أم أن كلاً منهما عَمِل على الترجمة بمفرده، ولكن يُرجَّح أن عملية الترجمة ابتدَأتْ عَقِب عودة أديلارد من أَسفَارِه التي استَغرقَت منه سبع سنوات.

وشَرَع أديلارد في السفر منذ وقت مبكر، تحديدًا بعدما أنهى فترة تعليمه الابتدائية الرسمية في المدارس اللاتينية بوقت قصير. فَركِب البحر في رحلة إلى شواطئ إيطاليا الجنوبية، وإلى إمارة أنطاكيا. ووَصَف تلك الرحلة التي استمرت سَبْع سنوات وصفًا شهيرًا بأنها كانت رحلةً لِسَبْر أغوار دراسات العرب، ومقارنتها بدراسات الفرنسيين. ووَصَف دراسات العرب بأنها تعتمد على المنطق بدلاً من الرأي الديني.

وترى لويز كوتشرين (كاتبة السيرة الذاتية لأديلارد أوف باث) أنه من المتوقع أن يكون أديلارد قد وصل إلى سوريا عبر جنوب إيطاليا، ثم صقلية، ثم اليونان. وذَكَر أديلارد في إحدى كتبه التي أهداها لأُسْقُف سَرَقُوسَة (مدينة في جزيرة صقلية) كُلاً من اليونان، وساليرنو (مدينة تقع في جنوبي إيطاليا). بينما وَصَف في كتابه ذائع الصِّيت أسئلة عن الطبيعة أنه اهتَز بفعل زلزال بينما كان يعبر جسرًا في مدينة المصيصة (مدينة تاريخية، تقع أطلالها بالقرب من مدينة أضنة التركية حاليًا) في طريقه إلى أنطاكيا. ووَصَف أديلارد ذلك الجسر، إضافة لوصفه للاهتزاز العنيف الذي أصاب المنطقة بأكملها بفعل حركة الأرض تحت أقدام الناس. واستنبَطَت كوتشرين من خلال وَصْف أديلارد لذلك الزلزال التاريخ الذي قام فيه برحلته. وَقَع ذلك الزلزال في عام 1114م وقد أَثَّر على منطقة الأناضول، وسَبَّبَ دمارًا عظيمًا في أنطاكيا؛ التي تبعد مئة ميل عن مدينة المصيصة، وهي نفس المسافة التي تفصلها عن مدينة أورفة. وهذا التاريخ هو الذي شُنَّت فيه أولى الحملات الصليبية؛ عندما شعر الفِرِنجَة (قبائل جرمانية غَزَت الدولة الرومانية وسيطرَت على أجزاء من أوروبا) بتهديد خطير من القوات التي يحشدها السلطان محمد السلجوقي ضدهم. وأَشرَف روجر أوف ساليرنو أمير أنطاكيا بنفسه على إصلاح ما تَهدَّم من التحصينات. وتوصَّلَت كوتشرين من خلال هذه المعلومات إلى بعض النقاط المهمة حول مشاهدة أديلارد للسلجوقيين عندما كانوا يصلحون الجسور التي دمرها الزلزال، وما تَبِع ذلك من تنفيذ طرق الإصلاح السلجوقية تلك في إنجلترا.

بقلم: Salah Zaimeche
ترجمة: أيمن عزت عبد الله