من التَّوَهُّمِ إلى التَّعَقُّل: خَمْسُ عَقَباتٍ في الطَّريق


عقب هزيمة مارك أنتوني في موقعة أكتيوم (سنة 31 ق.م) نمت إلى سَمعِه شائعةٌ فحواها أن كليوباترا قد انتحرت؛ وعلى إثر ذلك طعن نفسه في البطن، ليكتشف بعد ذلك أن كليوباترا هي من روَّجَت لتلك الشائعة بنفسها، وقد مات فيما بعد بين ذراعيها. الأخبار الكاذبة ليست بالشيء الجديد، ولكنها في عصرنا الإشباكي (عصر الإنترنت) قد انتشرت كالمرض المعدي، فنراها تارةً تَقلِب نتيجة الانتخابات، وتُثيِر الاضطرابات الاجتماعية، وتارةً تُقوِّض المؤسسات وتُوجِّه رأس المال السياسي بعيدًا عن كل ما يتوجب على الحكومة الراشدة من الإنفاق على الصحة والتعليم والبيئة.

إذن، فما هي الطريقة المُثلى لصد تلك الشائعات؟
دراستي للطِّب جعلتني أقضي ما يربو على العشرين عامًا في التعليم النظامي. وإذا استثنينا منها عامين هُما مدة دراستي لإجازة التَّخصص (ماجستير) في الفلسفة، فإن مسيرتي التعليمية ارتكزت طوال تلك المدة على تراكم الحقائق والمعلومات ارتكازًا راسخًا. أنا اليوم لا أكاد أجد لمعظم تلك الحقائق فائدة تذكر. ورُغم أني لم أبلُغ من العُمر إلا مُنتصَفِه، أجِد العديد من تلك الحقائق قد صار قديمًا أو أصبح مَثارَ شكوكٍ وتساؤلاتٍ كثيرة. ولكنني أعَوِّل دائمًا وأبدًا على قدرتي على التفكير النقدي. ويحضُرُني ما قاله «بي. إف. اسكِنَر»؛ أخصائي علم النَّفس والفيلسوف الاجتماعي، ذات مرةٍ: «التعليم الحق هو الذي يبقى عندما يغمر النسيان ما تعلمناه».

ولكن يبقى السؤال هُنا، هل يمكننا تعليم التفكير النقدي للآخرين؟
لقد أورد أفلاطون في محاورة «مينو» قول سقراط: «إن أهل الحكمة والفضيلة من الناس يعجزهم نقل تلك الصفات إلى الآخرين». فقد كان القائد العسكري والسياسي الأثيني «ثِمستُكْلِيس» قادرًا على تعليم ابنه «كليوفَنتس» مهاراتٍ من قبيل الوقوف على ظهر الخيل، ورماية الرُّمح، ولكن لم نسمع عمَّن نَسَب حكمة الأب إلى ولده. وهكذا كان حال «لِسِماخُس» مع ابنه «أرِستِدَس»، و«ثُسِديدس» وابنيه «مِليسيَس» و«ستِفَنُس».

وأورد أفلاطون في محاورة «پرُتَگُراس» ما حكاه سقراط من أن «پركليس»، ذاك القائد الذي حكم أثينا في أزهي عصورها، قد زود أبناءه بتعاليمٍ وافيةٍ كافيةٍ في كل ما يمكن للدَّارس أن يتلقَّاه عن شيخِه. ولكن عندما جاء إلى الحكمة تركهم يُجِيلون النظر بملء إرادتهم، وقد كان يَحدوه أملٌ أن يستطيعوا تجلية الفضيلة بأنفسهم.
إذن، ربما لا يمكننا تعليم الحكمة والفضيلة، ولكن تعليم مهارات التفكير أو أقل القليل منها ليس بالمُحَال. فلماذا لا نُخصِّص مزيدًا من الوقت لتعليم مهارات التفكير في مدارسنا وجامعاتنا، بدلًا من تركها للصُّدَف؟ ولماذا لا نكون أكثر حرصًا ومنهجية فيما يَخُص هذا الأمر؟

بدايةً، دعني أقدم لك عزيزي القارئ ما سمَّيتُه بـ «أعداء التفكير العقلاني الخمسة»:


العدو الأول: المغالطة الشكلية
المغالطة هي خلَلُّ في الحُجَّة، والمغالطة الشكلية هي إحدى أنواع الحُجَج الفاسِدة؛ إنها حُجَّةٌ جرى استنتاجها من قَالَبِ تفكيرٍ خطأ. فعلى سبيل المثال:
إذا كان «أ» بعضًا من «ب»، وكانت «ب» بعضًا من «ج»، إذن فإن «أ» بعضٌ من «ج».

إذا لم تكن قد تبَينتَ بطلان تلك الحجة بعدُ، فضَع الحشرات مكان «أ»، وآكلات العشب مكان «ب»، والثدييات مكان «ج». سيتضح لكَ جليًّا أن الحشرات ليست من الثدييات. إذن، المغالطة الشكلية تكمن في البنية الشكلية للحُجَّة؛ فهي حُجَّة غير صحيحة شكلًا بغض النظر عن مضمونها.

العدو الثاني: المغالطة غير الشكلية
على النقيض من المغالطة الشكلية، فإن المغالطة غير الشكلية هي التي لا يمكن تبينها إلا من خلال تحليل مضمون الحُجَّة. وغالبًا ما تدور المغالطات غير الشكلية حول التلاعب بالألفاظ؛ كاستخدام المصطلحات والعبارات الرئيسية بطريقة مُلبِسَة، فتستخدم في موضع معين بمعنًى، وفي موضعٍ آخر بمعنًى مختلف، وذلك ما نسميه «الالتباس المُعجَمي». كذلك تُركِّز المغالطات غير الشكلية على صرف انتباهك عن ضَعفِ الحُجَّة، أو تخاطب فيك العاطفة بدلًا من العقل. وإليك بعض الأمثلة على المغالطات غير الشكلية.

الطَّعن في البدائل: الدفاع عن أفضلية خيار ما لمجرد أن جميع بدائله مطعون فيها، كأن تقول إحداهُنَّ: «زيد رجلٌ عديم الفائدة، وعمرو رجلٌ سِكِّير، لذلك سأتزوج سعد؛ فإنه الرجل المناسب لي».

مغالطة الرِّهَان: وذلك بافتراض أن نتائج عدة أحداثٍ مستقلة عن بعضها تمامًا قد تؤثِّر في نتيجة حدثٍ مستقبلي مُستقلٌ أيضًا. كأن يقال مثلًا: «ليلى حاملٌ في طفلها الرابع، وقد كان أطفالها الثلاثة الأُوَل ذكورًا؛ إذن يُفتَرض أن تَلِد أنثى هذه المرة».

السير مع القطيع: وذلك أن نتوصل إلى الجَزم بصحة افتراضٍ ما على أساس أن عامَّة الناس أو مُعظمهم يعتقدون بصِحَّته. كأن يقال مثلًا: «هو مذنبٌ بالتأكيد؛ فحتى أمُّه قد تخلت عنه».

حُجَّة مَجهوليَّة الأدلة: أي أن نتمسك بصحة ادعاءٍ ما لعدم وجود أدلة لدينا على بطلانه، أو أن نجزم بخطأ فرضيةٍ ما لأنه لا يتوفر لدينا أدلةً على صحتها. كأن يُقال مثلًا: «لم يعثر العلماء على دليل يُرشِدُهم إلى وجود حياة على المريخ في الحاضر أو الماضي، وعليه فيمكننا أن نَجزِم بانعدام الحياة على سطح المريخ في أي زمان مُطلقًا».

حجة الاعتدال: وهي القول إن وجهة النظر المُعتدِلة أو أوسط الأمور يجب أن يكون هو الصحيح أو الأفضل. كأن يُقال مثلًا: «إن نصف سكان الدولة يفضلون الخروج من الاتحاد الأورُبِّي، بينما يفضل النصف الآخر الاحتفاظ بعضويته؛ فلنتخذ حلًّا وسطًا إذن، بترك الاتحاد الأورُبِّي مع البقاء ضمن الاتحاد الجُمركي».

كثيرةٌ هي الأمثلة التي يُمكِن للمرء أن يجدها في كتاب «فَرطُ العقلانية: الشَّطَطُ إلى ما وراء التفكير».[1]

العدو الثالث: الانحياز المعرفي
التَّحَيز لما نعرفه هو أسلوبٌ مُستهجَنٌ في التفكير، وإن لم يكن خاطئًا في المطلق، فهو نهجٌ مختصرٌ يعفينا من إضاعة الوقت، وبذل الجهد، والمشقة، ولكنه يأتي على حساب الدقة والموثوقية. وغالبًا ما نلجأ للانحياز المعرفي عندما نؤيد تصورنا لذواتنا أو رؤيتنا للعالم. فعلى سبيل المثال، عندما نحاول تفسير سلوكيات الآخرين، فإننا ننزع إلى إعلاء دور السِّمات الشخصية للفرد على دور العوامل الظَّرفيَّة، بينما نَنْهج عكس ذلك عندما نأتي إلى تفسير سلوكياتنا الشخصية، وهذا تحيزٌ يُسمَّى بخطأ العزو الأساسي. فمثلًا إذا قَصَّرَت هند ولم تقص العشب، فسوف أسارع إلى اتهامها بالنسيان أو الكسل أو تعمد التقصير؛ ولكن إذا كنت أنا الذي أهملت قص العشب، فسوف ألتمس لنفسي المبررات؛ كالانشغال، أو التعب، أو سوء الأحوال الجوية.

هناك نوعٌ آخر من التحيز لمعارفنا، لا يقل أهمية، وهو أن ننحاز إلى الجانب الذي يخدم أفكارنا أو يؤكدها فيما يُسمَّى بالانحياز التأكيدي. ونَجِدُ هذا الانحياز ظاهرًا عندما نميل حصريًّا إلى التنقيب واستدعاء القصص والحقائق والحُجَج التي تَتَّسِق مع ما هو قائمٌ في أذهاننا من معتقدات، بينما نُنَحِّي جانبًا ما يتعارض معها من تلك الحُجج والحقائق. وهذا قد يؤدي بنا إلى أن نكون مجرد صدًى لتلك المُعتقدات دون التَّحقق منها، ونرى هذا جليًّا على وسائل التواصل الاجتماعي.

العدو الرابع: التشوُّه المعرفي
التشوُّه المعرفي هو مفهوم ينتمي إلى مجال العلاج المعرفي السلوكي الذي طوَّره الطبيب النفسي «آرُن بِك» في ستينيات القرن الماضي واستُخدِم في علاج حالات الاكتئاب والاضطرابات العقلية الأخرى. ينطوي التشوُّه المعرفي على تفسيرنا الأحداث والمواقف بما يُوافِق وجهة نظرنا وإطارنا الفكري ويعززهما، مؤسِّسين ذلك عادةً على أدلةٍ هزيلةٍ أو مُبتَسَرة، أو حتى على غير دليلٍ إطلاقًا. فمن ضمن التشوهات المعرفية الشائعة في حالات الاكتئاب نجد مثلًا الانتقاء العشوائي، والتفكير السوداوي.

الانتقاء العشوائي هو التركيز على حالةٍ أو حدثٍ سلبيٍّ بعينه غالبًا لا يكون من الأهمية بمكان، وغض الطَّرف عن أحداثٍ أخرى أكثر إيجابية. كأن يُقال مثلًا: «زوجي يكرهني؛ فقد نظر إليَّ بضجرٍ منذ ثلاثة أيام».

أما التفكير السوداوي، فهو المبالغة والتهويل في العواقب المحتملة للأحداث والمواقف. كأن يُقال: «يا إلهي! الألم في ركبتي يزداد سُوءًا، فكيف يا تُرَى سأذهب إلى عملي ومَنْ يدفع فواتيري عندما يؤول حالي إلى قَعيدٍ على كرسي متحرك. حينها سأخسر منزلي، لأصير مُشَرَّدًا أجوب الشَّوارع إلى أن أموت».

ويدور التشوُّه المعرفي بصاحِبه في حلقةٍ مُفرَّغَة؛ إذ إن التشوُّه المعرفي يُورِّث الاكتئاب، والاكتئاب هو وَليدُ التشوُّه المعرفي. ومِمَّا نستَقيه من فهمنا العام للتشوه المعرفي هو أنَّه لا يتجلى في الاكتئاب والاضطرابات العقلية فحسب، بل يصطَفُّ مع أمورٍ أخرى ليصير حطبًا لنيران صفاتٍ مثل احتقار الذات، والغيرة، والخلافات الزوجية.

العدو الخامس: خداع النَّفس
أكثر أعداء التفكير العقلاني الخمسة شراسةً هو خداع النَّفس؛ لأنه يكاد يكون الأصل الذي نَبتَت منه الأربعة الأخرى.
فلو أننا لم نفكر بوضوح، ولو أننا لم نستطع رؤية الحقائق الكلية، فعادةً لا يكون هذا بسبب أننا محدودو الذكاء أو التعليم أو الخبرة، وإنما بسبب تخوُّفنا من أن تكون ذواتُنا عاريةٌ وعرضة للهجوم. وبدلًا من أن نعترف بالحقيقة المؤلمة، فإننا نُفضِّل الاتجاه في المسلك العكسي؛ فنَدْفَع عن أنفسنا بخِدَاعِها.

وكما ناقشتُ في كتابي «لُعبَة الغُمِّيضة: التفسير النفسي لخداع الذَّات»[2]، فإن جميع أنواع خداع النَّفس يمكن فهمها في إطار الدفاع عن الذات والأنا الشخصية. فالدفاع عن الذاتِ يُعدُّ في نظرية التحليل النفسي واحدة من عملياتٍ كثيرة تجري في عالمنا اللاواعي بقصد تبديد مشاعر الخوف والقلق النَّاتِجة عندما تتعارض حقيقتُنا (هويتنا اللاواعية)؛ من نحن؟ وماذا نكون في الحقيقة؟، مع (هويتنا الواعية أو الأنا العُليَا)؛ صورتنا التي نَظُنُّ أنَّها حقيقتُنا أو التي يجب أن نكون عليها. ولكي يتَّضِح ما ذهبنا إليه من تفصيلٍ، فإليكَ نمطين من أنماط الدفاع عن النفس؛ هُمَا نمط الإسقاط، ونمط المثالية.

الإسقاط هو أن ينسِبَ شخصٌ ما أفكاره ومشاعره المُستهجَنة وغير المقبولة إلى أناسٍ آخرين، مما يستدعيه أولًا أن يطمر وجودها في نفسه ويغيبها، (وهذا دفاع آخر عن الذات)؛ فهو يحتاج إلى إنكار تلك المشاعر والأفكار غير المقبولة قبل أن يتبرَّأ منها وينفيها عن نفسه. ومن الأمثلة القديمة على الإسقاط؛ المرأة الحَسَود التي تعتقد أن كل الناس تحسدها، وكذلك الطماع الذي يعيش في هلع دائم من أن تُنزَع منه ممتلكاته. وعلى نفس الشَّاكِلة، أولئك الذين لديهم نزوة الخيانة الزَّوجِية، دائمًا ما يُراودُهم الشَّك بأنَّهم يتعرَّضون للخيانة من أزواجهم.

أما المثالية ففحواها المبالغة في تثمين السِّمَات الإيجابية لشخصٍ أو شيءٍ أو فكرةٍ ما مع التهوين من آثار سماتها السلبية. وفي المستوى الأكثر تطورًا، تَبرُز المثالية في صورة إسقاط رغباتنا واحتياجاتنا على ذلك الشخص أو الشيء أو تلك الفكرة. وتُعدُّ حالة العِشق أو الهَيمَان في الحُب نموذجًا صارخًا على ذلك النمط المثالي؛ إذ نخلط فيه بين الحُب وبين احتياجنا إلى الحب. فنرى تلك السِّمات السَّلبِيَّة وقد اختفَت كُليَّةً في عين المُحِب، بل وقد تستَحِيل في نظره إلى سماتٍ إيجابية. ورغم ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من صحوةٍ قاسيةٍ على النَّفس، فهناك طرائق وأساليب لتهدئة قلقنا الوجودي هي خيرٌ لنا من اختلاق كيان مثالي، سواءٌ أكان هذا الكيانُ مُتمثِّلًا في أداةٍ من الأدوات أو مكانٍ ما أو بلدٍ من البُلدان، أو مُتمثِّلًا في شخصٍ أو قوةٍ عُليَا.

وفي جميع الأحوال، تظل الحقائق هي المادة الخام التي يشتَغِل بها تفكيرنا. وعندما تكون تلك الحقائق منقُوصَة أو مُشَوَّهة أو مُضلِّلَة، فإن آلة التَّفكير لا يمكن أن تُحرِّك ساكنًا.

التُّرجُمَان: مجاهد عبد العظيم رضوان
المُراجِع: أسامة إسماعيل عبد العليم
المقال الأصلي: How to Think

الهوامش:
[1] اسم الكتاب بالكِلزيَّة: Hypersanity: Thinking Beyond Thinking
[2] اسم الكتاب بالكِلزيَّة: Hide and Seek: The Psychology of Self-Deception