• الرئيسية
  • العلوم والصحة
  • التقنية والمعلوماتية
  • التنمية وريادة الأعمال
  • اللسانيات
  • العلوم الإنسانية
  • الثقافات والفنون
  • عن المُبادرة
Trjama | تَرْجَمَة

من التَّوَهُّمِ إلى التَّعَقُّل: خَمْسُ عَقَباتٍ في الطَّريق

Trjama ديسمبر 14, 2020

عقب هزيمة مارك أنتوني في موقعة أكتيوم (سنة 31 ق.م) نمت إلى سَمعِه شائعةٌ فحواها أن كليوباترا قد انتحرت؛ وعلى إثر ذلك طعن نفسه في البطن، ليكتشف بعد ذلك أن كليوباترا هي من روَّجَت لتلك الشائعة بنفسها، وقد مات فيما بعد بين ذراعيها. الأخبار الكاذبة ليست بالشيء الجديد، ولكنها في عصرنا الإشباكي (عصر الإنترنت) قد انتشرت كالمرض المعدي، فنراها تارةً تَقلِب نتيجة الانتخابات، وتُثيِر الاضطرابات الاجتماعية، وتارةً تُقوِّض المؤسسات وتُوجِّه رأس المال السياسي بعيدًا عن كل ما يتوجب على الحكومة الراشدة من الإنفاق على الصحة والتعليم والبيئة.

إذن، فما هي الطريقة المُثلى لصد تلك الشائعات؟
دراستي للطِّب جعلتني أقضي ما يربو على العشرين عامًا في التعليم النظامي. وإذا استثنينا منها عامين هُما مدة دراستي لإجازة التَّخصص (ماجستير) في الفلسفة، فإن مسيرتي التعليمية ارتكزت طوال تلك المدة على تراكم الحقائق والمعلومات ارتكازًا راسخًا. أنا اليوم لا أكاد أجد لمعظم تلك الحقائق فائدة تذكر. ورُغم أني لم أبلُغ من العُمر إلا مُنتصَفِه، أجِد العديد من تلك الحقائق قد صار قديمًا أو أصبح مَثارَ شكوكٍ وتساؤلاتٍ كثيرة. ولكنني أعَوِّل دائمًا وأبدًا على قدرتي على التفكير النقدي. ويحضُرُني ما قاله «بي. إف. اسكِنَر»؛ أخصائي علم النَّفس والفيلسوف الاجتماعي، ذات مرةٍ: «التعليم الحق هو الذي يبقى عندما يغمر النسيان ما تعلمناه».

ولكن يبقى السؤال هُنا، هل يمكننا تعليم التفكير النقدي للآخرين؟
لقد أورد أفلاطون في محاورة «مينو» قول سقراط: «إن أهل الحكمة والفضيلة من الناس يعجزهم نقل تلك الصفات إلى الآخرين». فقد كان القائد العسكري والسياسي الأثيني «ثِمستُكْلِيس» قادرًا على تعليم ابنه «كليوفَنتس» مهاراتٍ من قبيل الوقوف على ظهر الخيل، ورماية الرُّمح، ولكن لم نسمع عمَّن نَسَب حكمة الأب إلى ولده. وهكذا كان حال «لِسِماخُس» مع ابنه «أرِستِدَس»، و«ثُسِديدس» وابنيه «مِليسيَس» و«ستِفَنُس».

وأورد أفلاطون في محاورة «پرُتَگُراس» ما حكاه سقراط من أن «پركليس»، ذاك القائد الذي حكم أثينا في أزهي عصورها، قد زود أبناءه بتعاليمٍ وافيةٍ كافيةٍ في كل ما يمكن للدَّارس أن يتلقَّاه عن شيخِه. ولكن عندما جاء إلى الحكمة تركهم يُجِيلون النظر بملء إرادتهم، وقد كان يَحدوه أملٌ أن يستطيعوا تجلية الفضيلة بأنفسهم.
إذن، ربما لا يمكننا تعليم الحكمة والفضيلة، ولكن تعليم مهارات التفكير أو أقل القليل منها ليس بالمُحَال. فلماذا لا نُخصِّص مزيدًا من الوقت لتعليم مهارات التفكير في مدارسنا وجامعاتنا، بدلًا من تركها للصُّدَف؟ ولماذا لا نكون أكثر حرصًا ومنهجية فيما يَخُص هذا الأمر؟

بدايةً، دعني أقدم لك عزيزي القارئ ما سمَّيتُه بـ «أعداء التفكير العقلاني الخمسة»:


العدو الأول: المغالطة الشكلية
المغالطة هي خلَلُّ في الحُجَّة، والمغالطة الشكلية هي إحدى أنواع الحُجَج الفاسِدة؛ إنها حُجَّةٌ جرى استنتاجها من قَالَبِ تفكيرٍ خطأ. فعلى سبيل المثال:
إذا كان «أ» بعضًا من «ب»، وكانت «ب» بعضًا من «ج»، إذن فإن «أ» بعضٌ من «ج».

إذا لم تكن قد تبَينتَ بطلان تلك الحجة بعدُ، فضَع الحشرات مكان «أ»، وآكلات العشب مكان «ب»، والثدييات مكان «ج». سيتضح لكَ جليًّا أن الحشرات ليست من الثدييات. إذن، المغالطة الشكلية تكمن في البنية الشكلية للحُجَّة؛ فهي حُجَّة غير صحيحة شكلًا بغض النظر عن مضمونها.

العدو الثاني: المغالطة غير الشكلية
على النقيض من المغالطة الشكلية، فإن المغالطة غير الشكلية هي التي لا يمكن تبينها إلا من خلال تحليل مضمون الحُجَّة. وغالبًا ما تدور المغالطات غير الشكلية حول التلاعب بالألفاظ؛ كاستخدام المصطلحات والعبارات الرئيسية بطريقة مُلبِسَة، فتستخدم في موضع معين بمعنًى، وفي موضعٍ آخر بمعنًى مختلف، وذلك ما نسميه «الالتباس المُعجَمي». كذلك تُركِّز المغالطات غير الشكلية على صرف انتباهك عن ضَعفِ الحُجَّة، أو تخاطب فيك العاطفة بدلًا من العقل. وإليك بعض الأمثلة على المغالطات غير الشكلية.

الطَّعن في البدائل: الدفاع عن أفضلية خيار ما لمجرد أن جميع بدائله مطعون فيها، كأن تقول إحداهُنَّ: «زيد رجلٌ عديم الفائدة، وعمرو رجلٌ سِكِّير، لذلك سأتزوج سعد؛ فإنه الرجل المناسب لي».

مغالطة الرِّهَان: وذلك بافتراض أن نتائج عدة أحداثٍ مستقلة عن بعضها تمامًا قد تؤثِّر في نتيجة حدثٍ مستقبلي مُستقلٌ أيضًا. كأن يقال مثلًا: «ليلى حاملٌ في طفلها الرابع، وقد كان أطفالها الثلاثة الأُوَل ذكورًا؛ إذن يُفتَرض أن تَلِد أنثى هذه المرة».

السير مع القطيع: وذلك أن نتوصل إلى الجَزم بصحة افتراضٍ ما على أساس أن عامَّة الناس أو مُعظمهم يعتقدون بصِحَّته. كأن يقال مثلًا: «هو مذنبٌ بالتأكيد؛ فحتى أمُّه قد تخلت عنه».

حُجَّة مَجهوليَّة الأدلة: أي أن نتمسك بصحة ادعاءٍ ما لعدم وجود أدلة لدينا على بطلانه، أو أن نجزم بخطأ فرضيةٍ ما لأنه لا يتوفر لدينا أدلةً على صحتها. كأن يُقال مثلًا: «لم يعثر العلماء على دليل يُرشِدُهم إلى وجود حياة على المريخ في الحاضر أو الماضي، وعليه فيمكننا أن نَجزِم بانعدام الحياة على سطح المريخ في أي زمان مُطلقًا».

حجة الاعتدال: وهي القول إن وجهة النظر المُعتدِلة أو أوسط الأمور يجب أن يكون هو الصحيح أو الأفضل. كأن يُقال مثلًا: «إن نصف سكان الدولة يفضلون الخروج من الاتحاد الأورُبِّي، بينما يفضل النصف الآخر الاحتفاظ بعضويته؛ فلنتخذ حلًّا وسطًا إذن، بترك الاتحاد الأورُبِّي مع البقاء ضمن الاتحاد الجُمركي».

كثيرةٌ هي الأمثلة التي يُمكِن للمرء أن يجدها في كتاب «فَرطُ العقلانية: الشَّطَطُ إلى ما وراء التفكير».[1]

العدو الثالث: الانحياز المعرفي
التَّحَيز لما نعرفه هو أسلوبٌ مُستهجَنٌ في التفكير، وإن لم يكن خاطئًا في المطلق، فهو نهجٌ مختصرٌ يعفينا من إضاعة الوقت، وبذل الجهد، والمشقة، ولكنه يأتي على حساب الدقة والموثوقية. وغالبًا ما نلجأ للانحياز المعرفي عندما نؤيد تصورنا لذواتنا أو رؤيتنا للعالم. فعلى سبيل المثال، عندما نحاول تفسير سلوكيات الآخرين، فإننا ننزع إلى إعلاء دور السِّمات الشخصية للفرد على دور العوامل الظَّرفيَّة، بينما نَنْهج عكس ذلك عندما نأتي إلى تفسير سلوكياتنا الشخصية، وهذا تحيزٌ يُسمَّى بخطأ العزو الأساسي. فمثلًا إذا قَصَّرَت هند ولم تقص العشب، فسوف أسارع إلى اتهامها بالنسيان أو الكسل أو تعمد التقصير؛ ولكن إذا كنت أنا الذي أهملت قص العشب، فسوف ألتمس لنفسي المبررات؛ كالانشغال، أو التعب، أو سوء الأحوال الجوية.

هناك نوعٌ آخر من التحيز لمعارفنا، لا يقل أهمية، وهو أن ننحاز إلى الجانب الذي يخدم أفكارنا أو يؤكدها فيما يُسمَّى بالانحياز التأكيدي. ونَجِدُ هذا الانحياز ظاهرًا عندما نميل حصريًّا إلى التنقيب واستدعاء القصص والحقائق والحُجَج التي تَتَّسِق مع ما هو قائمٌ في أذهاننا من معتقدات، بينما نُنَحِّي جانبًا ما يتعارض معها من تلك الحُجج والحقائق. وهذا قد يؤدي بنا إلى أن نكون مجرد صدًى لتلك المُعتقدات دون التَّحقق منها، ونرى هذا جليًّا على وسائل التواصل الاجتماعي.

العدو الرابع: التشوُّه المعرفي
التشوُّه المعرفي هو مفهوم ينتمي إلى مجال العلاج المعرفي السلوكي الذي طوَّره الطبيب النفسي «آرُن بِك» في ستينيات القرن الماضي واستُخدِم في علاج حالات الاكتئاب والاضطرابات العقلية الأخرى. ينطوي التشوُّه المعرفي على تفسيرنا الأحداث والمواقف بما يُوافِق وجهة نظرنا وإطارنا الفكري ويعززهما، مؤسِّسين ذلك عادةً على أدلةٍ هزيلةٍ أو مُبتَسَرة، أو حتى على غير دليلٍ إطلاقًا. فمن ضمن التشوهات المعرفية الشائعة في حالات الاكتئاب نجد مثلًا الانتقاء العشوائي، والتفكير السوداوي.

الانتقاء العشوائي هو التركيز على حالةٍ أو حدثٍ سلبيٍّ بعينه غالبًا لا يكون من الأهمية بمكان، وغض الطَّرف عن أحداثٍ أخرى أكثر إيجابية. كأن يُقال مثلًا: «زوجي يكرهني؛ فقد نظر إليَّ بضجرٍ منذ ثلاثة أيام».

أما التفكير السوداوي، فهو المبالغة والتهويل في العواقب المحتملة للأحداث والمواقف. كأن يُقال: «يا إلهي! الألم في ركبتي يزداد سُوءًا، فكيف يا تُرَى سأذهب إلى عملي ومَنْ يدفع فواتيري عندما يؤول حالي إلى قَعيدٍ على كرسي متحرك. حينها سأخسر منزلي، لأصير مُشَرَّدًا أجوب الشَّوارع إلى أن أموت».

ويدور التشوُّه المعرفي بصاحِبه في حلقةٍ مُفرَّغَة؛ إذ إن التشوُّه المعرفي يُورِّث الاكتئاب، والاكتئاب هو وَليدُ التشوُّه المعرفي. ومِمَّا نستَقيه من فهمنا العام للتشوه المعرفي هو أنَّه لا يتجلى في الاكتئاب والاضطرابات العقلية فحسب، بل يصطَفُّ مع أمورٍ أخرى ليصير حطبًا لنيران صفاتٍ مثل احتقار الذات، والغيرة، والخلافات الزوجية.

العدو الخامس: خداع النَّفس
أكثر أعداء التفكير العقلاني الخمسة شراسةً هو خداع النَّفس؛ لأنه يكاد يكون الأصل الذي نَبتَت منه الأربعة الأخرى.
فلو أننا لم نفكر بوضوح، ولو أننا لم نستطع رؤية الحقائق الكلية، فعادةً لا يكون هذا بسبب أننا محدودو الذكاء أو التعليم أو الخبرة، وإنما بسبب تخوُّفنا من أن تكون ذواتُنا عاريةٌ وعرضة للهجوم. وبدلًا من أن نعترف بالحقيقة المؤلمة، فإننا نُفضِّل الاتجاه في المسلك العكسي؛ فنَدْفَع عن أنفسنا بخِدَاعِها.

وكما ناقشتُ في كتابي «لُعبَة الغُمِّيضة: التفسير النفسي لخداع الذَّات»[2]، فإن جميع أنواع خداع النَّفس يمكن فهمها في إطار الدفاع عن الذات والأنا الشخصية. فالدفاع عن الذاتِ يُعدُّ في نظرية التحليل النفسي واحدة من عملياتٍ كثيرة تجري في عالمنا اللاواعي بقصد تبديد مشاعر الخوف والقلق النَّاتِجة عندما تتعارض حقيقتُنا (هويتنا اللاواعية)؛ من نحن؟ وماذا نكون في الحقيقة؟، مع (هويتنا الواعية أو الأنا العُليَا)؛ صورتنا التي نَظُنُّ أنَّها حقيقتُنا أو التي يجب أن نكون عليها. ولكي يتَّضِح ما ذهبنا إليه من تفصيلٍ، فإليكَ نمطين من أنماط الدفاع عن النفس؛ هُمَا نمط الإسقاط، ونمط المثالية.

الإسقاط هو أن ينسِبَ شخصٌ ما أفكاره ومشاعره المُستهجَنة وغير المقبولة إلى أناسٍ آخرين، مما يستدعيه أولًا أن يطمر وجودها في نفسه ويغيبها، (وهذا دفاع آخر عن الذات)؛ فهو يحتاج إلى إنكار تلك المشاعر والأفكار غير المقبولة قبل أن يتبرَّأ منها وينفيها عن نفسه. ومن الأمثلة القديمة على الإسقاط؛ المرأة الحَسَود التي تعتقد أن كل الناس تحسدها، وكذلك الطماع الذي يعيش في هلع دائم من أن تُنزَع منه ممتلكاته. وعلى نفس الشَّاكِلة، أولئك الذين لديهم نزوة الخيانة الزَّوجِية، دائمًا ما يُراودُهم الشَّك بأنَّهم يتعرَّضون للخيانة من أزواجهم.

أما المثالية ففحواها المبالغة في تثمين السِّمَات الإيجابية لشخصٍ أو شيءٍ أو فكرةٍ ما مع التهوين من آثار سماتها السلبية. وفي المستوى الأكثر تطورًا، تَبرُز المثالية في صورة إسقاط رغباتنا واحتياجاتنا على ذلك الشخص أو الشيء أو تلك الفكرة. وتُعدُّ حالة العِشق أو الهَيمَان في الحُب نموذجًا صارخًا على ذلك النمط المثالي؛ إذ نخلط فيه بين الحُب وبين احتياجنا إلى الحب. فنرى تلك السِّمات السَّلبِيَّة وقد اختفَت كُليَّةً في عين المُحِب، بل وقد تستَحِيل في نظره إلى سماتٍ إيجابية. ورغم ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من صحوةٍ قاسيةٍ على النَّفس، فهناك طرائق وأساليب لتهدئة قلقنا الوجودي هي خيرٌ لنا من اختلاق كيان مثالي، سواءٌ أكان هذا الكيانُ مُتمثِّلًا في أداةٍ من الأدوات أو مكانٍ ما أو بلدٍ من البُلدان، أو مُتمثِّلًا في شخصٍ أو قوةٍ عُليَا.

وفي جميع الأحوال، تظل الحقائق هي المادة الخام التي يشتَغِل بها تفكيرنا. وعندما تكون تلك الحقائق منقُوصَة أو مُشَوَّهة أو مُضلِّلَة، فإن آلة التَّفكير لا يمكن أن تُحرِّك ساكنًا.

التُّرجُمَان: مجاهد عبد العظيم رضوان
المُراجِع: أسامة إسماعيل عبد العليم
المقال الأصلي: How to Think

الهوامش:
[1] اسم الكتاب بالكِلزيَّة: Hypersanity: Thinking Beyond Thinking
[2] اسم الكتاب بالكِلزيَّة: Hide and Seek: The Psychology of Self-Deception


إقرأ المزيد...

هل سيَحِل الذكاء الصِناعيّ جميع مشكلاتنا؟

Trjama ديسمبر 07, 2018 science


يَجتاحُ جنون الذكاء الصِناعيّ العالم؛ أخبارٌ رنانة تنتشر كالنار في الهشيم عن قدراته على علاج الأمراض ورفع مستويات الابتكار والإبداع البشريَّين. فقط ألقِ نظرة عابرة على عناوين الأخبار، وستظنُّنا نحيا في زمن تَغلغلَ فيه الذكاء الصِناعيّ في جميع جوانب الحياة.
بلا ريب، أتاح الذكاء الصِناعيّ فيضًا من الفرص الواعدة، وأدى إلى ظهور مفهوم يسمى "حَصَافَةُ الذكاء الصِناعيّ"، وهو ذلك الاعتقاد القائل بأن خوارزميات التَّعَلُّم الآلي تستطيع حل جميع مشكلات البشرية، إذا ما غُذِّيَت بالقدر الكافي من البيانات. بيدَ أن ذلك المفهوم ينطوي على مشكلة جسيمة، فهو يضعُ قيمةَ الذكاء الصِناعيّ في مهبِ الريح بدلًا من دعم تطوره، بسبب إهماله مبادئ حماية الذكاء الصِناعيّ الهامة، ووضع توقعات غير واقعية عمَّا يستطيع الذكاء الصِناعيّ تقديمه للبشرية.

 

حَصَافَةُ الذكاء الصِناعيّ

في سنوات معدودات، شَقَّ مفهوم "حَصَافَةُ الذكاء الصِناعيّ" طريقهُ من أفواه مُرَوِّجيّ التقنية في "سيليكون ڤالي" (وهي منطقة بولاية كاليفورنيا اشتُهِرَت بالشركات التقنية) إلى عقول مسؤولي الحكومات وصانعي السياسات حول العالم؛ مستبدلين هاجس هلاك البشرية على يد الذكاء الصِناعيّ بمعتقد مثالي يُعلِنُ مجيء منقذنا الرقمي.
نرى اليوم حكومات تتعهد بدعم مبادرات الذكاء الصِناعيّ الوطنية، وتتبارى في سباق التسلح التقني والبياني للهيمنة على قطاع تَعَلُّم الآلة الواعد. على سبيل المثال، التزمت حكومة المملكة المتحدة باستثمار 300 مليون جنيه إسترليني في أبحاث الذكاء الصِناعيّ لتضمن مكانة رائدة في هذا المجال. كما يَعِد الرئيس الفرنسي "إمانويل ماكرون"، الشغوف بالتطور المُتوقَّع للذكاء الصِناعيّ، بجعل بلاده مركزًا عالميًا للذكاء الصِناعيّ، في الوقت الذي ترفع فيه الحكومة الصينية قدراتها في هذا المجال بخطة وطنية تَهدُف لامتلاك صناعة ذكاء صِناعيّ صينية تقدر قيمتها بـ 150 مليار دولار أمريكي بحلول العام 2030.
يعلو نجم مفهوم "حَصَافَةُ الذكاء الصِناعيّ"، ويخطو نحو البقاء.

 

الشبكات العصبية الصِناعيَّة - القول أيسر من الفعل

تصف تصريحات سياسية عديدة الآثار المترتبة على قيام "ثورة ذكاء صِناعيّ" تلوح في الأفق، بينما تتجه تصريحات أخرى نحو الاستهانة بتعقيدات انتشار أنظمة التَّعَلُّم الآلي المتطورة في عالمنا. فبين تقنيات الذكاء الصِناعيّ، نجد تقنية واعدة تسمى الشبكات العصبية، وهي تقنية تَعَلُّم آلي مُستوحاة من التكوين العصبي للمخ البشري، ولكن بمقياس أصغر بكثير، وتَعتَمِد عليها تطبيقات ذكاء صِناعيّ عديدة من أجل استخلاص الأنماط والقواعد من كميات كبيرة من البيانات. لكن يجهلُ الكثير من الساسة حقيقةَ أن مجرد الاستعانة بشبكة عصبية صِناعيَّة في مشكلة ما، لا يعني إيجاد حل لها، فالاستعانة بشبكة عصبية صِناعيَّة في عملية ديموقراطية، لا يعني أنها ستصبح تلقائيًا عملية أكثر شمولًا وعدلًا واختصاصًا.

 

مغالبةُ بيروقراطية البيانات

تحتاج أنظمة الذكاء الصِناعيّ لكمٍ كبير من البيانات كي تعمل، لكن القطاع العام إجمالًا ليس لديه بِنية بيانية أساسية سليمة لإمداد أنظمة تَعَلُّم آلي متطورة، وأغلب البيانات لا تزال محفوظة في سِجلات ورقية. أما مصادر البيانات الرقمية القليلة، يَغلُبُ أن تكون حبيسة سراديب البيروقراطية. في الأغلب، تحتاج البيانات المتنقلة بين قطاعات الحكومة المختلفة إلى أذونات خاصة للولوج إليها. وقبل كل ذلك، يفتقر القطاع العام إلى العامل البشري ذي القدرات التقنية المُناسبة لجني ما يملكه الذكاء من فوائد.
لهذه الأسباب، جذب الجدل المُثار حول الذكاء الصِناعيّ العديد من النُقاد. لدى "ستيوارت روسيل"، أستاذ علوم الحاسوب بجامعة "كاليفورنيا بيركلي"، نهجٌ واقعي يُركِز على الاستخدامات اليومية البسيطة للذكاء الصِناعيّ، عوضًا عن التركيز على فرضيات احتلال الآليِّين فائقي الذكاء لنا. وبالمثل، يقول "رودني بروكس"، أستاذ علوم الآليِّين بمعهد "ماستشوستس" للتقنية: «لا تزال الغالبية العظمى من الابتكارات في مجالي علوم الآليِّين والذكاء الصِناعيّ تحتاج لوقت طويل جدًا قبل أن تُستخدم على نطاق واسع، وقت أطول مما يتخيله العاملون بالمجال، فضلًا عمن هم بخارجه».
إحدى أشد الصعوبات في انتشار أنظمة التَّعَلُّم الآلي هي أن الذكاء الصِناعيّ مُعرَض بشدة إلى هجمات تدميرية، حيث يستطيع نظام ذكاء صِناعيّ خبيث استهداف نظام آخر وإجبارهِ على بناء توقعات خاطئة أو التصرف بشكل بعينه. ولقد حذر العديد من الباحثين من نشر أنظمة الذكاء الصِناعيّ دون معايير تأمين وآليات دفاع مناسبة. ولا تزال قضية تأمين الذكاء الصِناعيّ قضية مُهملة.

 

التَّعَلُّم الآلي ليس سحرًا

إذا شرعنا في حصد منافع الذكاء الصِناعيّ وتقليل أضراره المُحتملة، علينا التفكير بشأن إمكانية تطبيق التَّعَلُّم الآلي بفعالية في جوانب معينة بالمجتمع والحكومات وقطاع الأعمال، أي أن علينا مناقشة أخلاقيات الذكاء الصِناعيّ، وتناول قلق العديد من الناس تجاه التَّعَلُّم الآلي. 
والأهم من ذلك، هو حاجتنا لإدراك حدود الذكاء الصِناعيّ ومتى يجب علينا حمل لواء القيادة عنه. فبدلًا من نسج صورة زائفة عن قدرة الذكاء الصِناعيّ، من الضروري اتخاذ خطوة للوراء والتفرقة بين قدرات الذكاء الصِناعيّ التقنية الفعلية، وبين السحر.
اعتقد موقع فيسبوك لوقت طويل أن مشكلات كانتشار المعلومات المُضلِّلَة وخطاب الكراهية يمكن أن تُمَيَّز وتُمنَع باستخدام الخوارزميات. ولكن بفعل الضغط الذي يمارسه المشرعون حاليًا، تعهدت الشركة أن تستبدل خوارزمياتها بحشد من المراجعين قوامه 10000 مراجع.
ثم جاء الدور على المهن الطبية، التي أدركَت هي الأُخرى أن الذكاء الصِناعيّ ليس حلًا لجميع المشكلات، فبرنامج "واتسون" للأورام كان قائمًا على الذكاء الصِناعيّ، وصُمِّمَ كي يساعد الأطباء في مكافحة مرض السرطان. وبالرغم من تطويره خصيصًا لتقديم أفضل توصيات، إلا أن الخبراء واجهوا صعوبة في وضع ثقتهم به. كنتيجة لذلك، تُرِكَ برنامج الذكاء الصِناعيّ ذلك في أغلب المستشفيات التي جُرِبَ فيها.
كما واجه المجال القانوني مشكلات مشابهة عندما استُخدِمت الخوارزميات في محاكم الولايات المتحدة لمحاكمة المجرمين. كانت مهمة الخوارزميات هي حساب معدلات الخطر وإرشاد القضاة إلى الحكم. إلا أن النظام كان مُبَالِغًا في التفريق العُنصري الهيكلي، وسُرعان ما أُلغِيَ.
توضح هذه الأمثلة كيف أن الذكاء الصِناعيّ ليس حلًا لكل شيء، وأن استخدام الذكاء الصِناعيّ لمجرد الرغبة في استخدامه لن يكون دائمًا مُنتِجًا أو فعالًا، كما أن إسناد جميع المشكلات إلى ذكاء الآلة ليس دائمًا الخيار الأمثل. لذا، يتحتم على كل من يرغب بضخ استثماراته في برامج الذكاء الصِناعيّ الوطنية إدراك أن لكل حلٍ ثمن، وأن ليس علينا ميكنة كل ما يمكن ميكنته.

------------
ترجمهُ إلى العربية: محمد العشيري
عن مقال "فياتشيسلاف بولونسكي" Why AI can’t solve everything 
إقرأ المزيد...

أَثَر علوم المسلمين ومعارفهم على إنجلترا (الجزء الثاني)

Trjama أغسطس 16, 2017 culture
كان أفضل ما كتبه أديلارد مجموعة من التساؤلات حول الطبيعة، مَكَّنَته من نشر المعرفة الإسلامية في عدة مجالات. وجاء عمله ذلك نتيجة لترحاله الذي دام سبع سنوات بين الأقطار الإسلامية في الشرق كما أسلفنا. فعندما غادر أديلارد مدينة لاون الفرنسية، أَسدَى النصيحة لابن أخيه وتلاميذه الآخرين بأن يبقوا في تلك المدينة، ليتعلموا قدر استطاعتهم من الفلسفة التي كانت تُدرَّس في شماليّ فرنسا. وكان عازمًا على السفر لِيَدرُس مع العرب، على أن يُقارَن ما دَوَّنه هو مع ما كَتَبه من درسوا في فرنسا عند عودته. وكان نِتَاج ذلك الجُهد كتاب "أسئلة حول الطبيعة" حيث جاء ذلك الكتاب في 76 بابًا، يطرح كل واحد منها سؤالاً علميًا يَذكُر من خلاله المعرفة الجديدة التي اكتسبها من رفاقه العرب. وصِيغ الكتاب على شكل نقاش بين المؤلف العائد لِتوِّه من رحلاته وما زالت الآثار الجديدة لعلوم المسلمين التي اكتسبها تملأ وجدانه، وابن أخيه الذي اصطَنع أديلارد شخصيته على أنه قد تَلقَّى في فرنسا تعليمًا دينيًا. لم يَعُد أديلارد قادرًا بعد الآن على أن يُطِيق التحامل على العِلم الحديث الذي كان في زمانه موافقًا للدراسات الإسلامية؛ خصوصًا بعد انقضاء سبع سنين أمضاها في الدراسة والتنقل بغرض استكشاف علوم العرب قدر استطاعته. ويَشعُر بالدهشة كل من يقرأ ما كتبه أستاذ التاريخ الأمريكي تشارلز هاسكينز عن أديلارد وكيفية وصفه للنباتات، والحياة البرية، والتساؤلات حول مواد الأرض، بسبب التشابه الوثيق بين تلك الكتابات مع الذي كتبه علماء النبات المسلمين مثل أبي حنيفة الدِينَوَرِي، والجغرافيون وعلماء مواد الأرض وبالأخص أبي الريحان البَيْرُوني. ولم تُنجَز إلى يومنا هذا دراسة مقارنة في هذا المجال، ولا يزال كتاب أديلارد حول الطبيعة متاحًا باللغة الألمانية فقط باستثناء بعض المقتطفات القصيرة المنشورة هنا وهناك باللغة الإنجليزية. وهذا عمل آخر مهم يفتقد إليه متحدثو اللغة الإنجليزية.

وقد عاد أديلارد مُفعَمًا بحماسٍ منقطع النظير لدراسات العرب. ولدى عودته أَعلَن أنه تعلم من أساتذته المسلمين أن المَنطِق يفوق في أهميته رأي السلطة الدينية فيما يتعلق بعلوم الطبيعة؛ وذلك لأن القدماء الذين تمكَّن فكرهم في الوقت الحالي من الوصول للسلطة، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا باستخدام ما دَلَّتهم عليه عقولهم. وفي هذا الشأن يقول أديلارد: "تَعلَّمتُ من المدرسين المسلمين أن يكون المنطق مُسيِّرًا للإنسان، بينما أَجِدُنا محاصرين برأي ذوي السلطة الذي يخنقنا خنق الأغلال للأعناق؛ وهل للسلطة الدينية وصف آخر سوى أنها غُلٌّ في الأعناق؟ فَكَما تُسَاق البهائم إلى أي مكان لا تدري ما الذي يقودها ولا لماذا تُقاد؛ ولكنها تَتْبَع الحَبْل الذي يَجرُّها فقط، يقود أرباب السلطة عددًا غير قليل منكم إلى حافة الهاوية؛ مقيَّدين ومُجبَرين على الاقتناع بأسلوب وحشي."
وبهذه الأفكار يكون أديلارد قد شق طريقًا جديدًا لم يكن معروفًا آنذاك، وهو استخدام المنطق العقلي بدلاً عن الرأي الديني. وهذه الأفكار هي أولى الأساسات التي بُنِي عليها التفكير العلمي الحديث. وتقول بهذا الشأن لويز كوتشرين: "إن أعمال أديلارد تُمثِّل مرحلة بارزة في تاريخ الفِكر". فهذه الحماسة والإيمان بالقدرة العقلية للإنسان تدل على أنه "إذا لم يكن العقل هو الفيصل، فمَنحُه للإنسان من الأساس كان عبثًا."

يبدو أن العلماء الإنجليز الأوائل قد أقروا صراحةً بالمكانة والتأثير اللذَين تبوأتهما العلوم الإسلامية. فنجد الحماس لعلوم المسلمين عند دانييل أوف مورلي بنفس الدرجة التي عايشناها في حياة أديلارد أوف باث. ارتَحَل مورلي إلى قرطبة ليَدرُس الرياضيات وعلم الفَلَك، ثم نَشَر نفائس تحصيله الدراسي، بالإضافة لكونه محاضرًا في جامعة أوكسفورد. ويُمكِن بوضوح ملاحظة إعجابه الشديد بمعارف المسلمين من خلال قراءة الإهداء الذي كتبه لِجُون أوف أوكسفورد (أُسْقُف مدينة نورتش الإنجليزية بين عامي 1175م و 1200م) في كتابه حول علم الفَلَك، الذي اقتَبَسنا الكثير منه نقلاً عن أستاذ تاريخ العرب والمسلمين في جامعة لندن تشارلز بيرنت: "منذ فترة قرَّرتُ السفر بغرض الدراسة، فمكثتُ لبعض الوقت في باريس. وهناك رأيت بُلَهَاء لا يمكن حتى أن يوصفوا بالرجال يجلسون على كراسي الأساتذة ويدَّعون أنهم ذَوو شأن. كانوا يجلسون إلى مكاتب تَئِن من وطأة مجلَّدَين ضخمين أو ثلاثة لا يمكن تحريكها، ويَرسُمون القانون الروماني بأحرف مذهَّبة. وكانوا بكل جِدِّيَّة وفي وقار شديد يُمْسِكون بأداةِ كتابة رصاصية اللون ليضعوا على النصوص التي يقرؤونها علامات النجمة (*) وعلامات أخرى تدل على وجود أخطاء. ولكني لم أكن لأرى لهم فائدة أكبر من التماثيل الرخامية؛ لأنهم لم يحوزوا أيَّ قَدرٍ من العلم. فكانوا يلوذون بالصمت آملين أن يبدوا حكماء، وإذا ما أرادوا الحديث عن أي شيء وجدتَّهم عاجزين عن التعبير بكلمة واحدة. وعندما اتضح لي أن الأمر كذلك لم أشأ أن أُصاب بآفة التحجُّر تلك منهم. فلما سمعتُ عن علوم العرب التي تتفرغ بالكامل للفنون الأربعة: الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفَلَك؛ التي ذاع صيتها آنذاك في مدينة طليطلة عزمتُ السير إليها بأسرع ما يمكن..."

ويتابع مورلي حديثه ليَذكُر أن أصدقائه ترَجَّوه ليعود من إسبانيا إلى إنجلترا، ولكن طلبهم ذلك قد أصابه بالإحباط. ولما سأله صديقه أُسقُف نورتش عن بدائع الأشياء في طليطلة؛ من قَبِيل أساليب التعليم، ودراسة حركة الأجرام السماوية، قدَّم مورلي له بحثًا مشتملاً على ما دوَّنه هناك من مشاهدات. كان القِسم الأول منه مخصَّصًا لدراسة الأرض، والقِسم الثاني لدراسة الفَلَك. ثم رَجَا من القارئ "ألَّا يَحتقِر الآراء البسيطة والواضحة للعرب، ولكن أن يُلاحِظ أن الفلاسفة اللاتينيين قد عقَّدوا الأمور بدون داعٍ، ودعاهم جهلهم إلى نسج أشياء لا حقيقة لها من خيالهم، وأخفَوهَا وراء لغة متكلِّفة. مِمَّا يُضفِي على تخبطهم الواضح في مثل هذه الأمور ستارًا من الغموض.

بحلول سنة 1180م كان دانييل أوف مورلي قد عاد إلى إنجلترا بعد اقتناعه برأي أبي معشر البلخي الذي كان يرى بأن من يعارض دراسة الفَلَك يُدمِّر العِلمَ بشكل عام. اعتمَد دانييل أوف مورلي على المسلمين ليُعارض السُّلطَة البالية للكُتَّاب المسيحيين القدامى مِثلَما فَعَل أديلارد أوف باث. ويقول الشاعر واللاهوتي الفرنسي ألين دي ليل عن أبي معشر البلخي إنه كان سيد علم النجوم بلا منازع.

مُترجم عن:The Impact of Islamic Science and Learning on England: Adelard of Bath and Daniel of Morley
ترجمة: أيمن عزت عبد الله
إقرأ المزيد...
رسائل أقدم الصفحة الرئيسية
الاشتراك في: الرسائل (Atom)

جميع الحقوق محفوظة لـ تَرْجَمَة © 2018

goe5_arterS#DModount_i592toparray_homeTomJOBTOmkertdwerkmeekrtyflitrtymorti

لا يوجد المزيد