أَثَر علوم المسلمين ومعارفهم على إنجلترا (الجزء الثاني)

كان أفضل ما كتبه أديلارد مجموعة من التساؤلات حول الطبيعة، مَكَّنَته من نشر المعرفة الإسلامية في عدة مجالات. وجاء عمله ذلك نتيجة لترحاله الذي دام سبع سنوات بين الأقطار الإسلامية في الشرق كما أسلفنا. فعندما غادر أديلارد مدينة لاون الفرنسية، أَسدَى النصيحة لابن أخيه وتلاميذه الآخرين بأن يبقوا في تلك المدينة، ليتعلموا قدر استطاعتهم من الفلسفة التي كانت تُدرَّس في شماليّ فرنسا. وكان عازمًا على السفر لِيَدرُس مع العرب، على أن يُقارَن ما دَوَّنه هو مع ما كَتَبه من درسوا في فرنسا عند عودته. وكان نِتَاج ذلك الجُهد كتاب "أسئلة حول الطبيعة" حيث جاء ذلك الكتاب في 76 بابًا، يطرح كل واحد منها سؤالاً علميًا يَذكُر من خلاله المعرفة الجديدة التي اكتسبها من رفاقه العرب. وصِيغ الكتاب على شكل نقاش بين المؤلف العائد لِتوِّه من رحلاته وما زالت الآثار الجديدة لعلوم المسلمين التي اكتسبها تملأ وجدانه، وابن أخيه الذي اصطَنع أديلارد شخصيته على أنه قد تَلقَّى في فرنسا تعليمًا دينيًا. لم يَعُد أديلارد قادرًا بعد الآن على أن يُطِيق التحامل على العِلم الحديث الذي كان في زمانه موافقًا للدراسات الإسلامية؛ خصوصًا بعد انقضاء سبع سنين أمضاها في الدراسة والتنقل بغرض استكشاف علوم العرب قدر استطاعته. ويَشعُر بالدهشة كل من يقرأ ما كتبه أستاذ التاريخ الأمريكي تشارلز هاسكينز عن أديلارد وكيفية وصفه للنباتات، والحياة البرية، والتساؤلات حول مواد الأرض، بسبب التشابه الوثيق بين تلك الكتابات مع الذي كتبه علماء النبات المسلمين مثل أبي حنيفة الدِينَوَرِي، والجغرافيون وعلماء مواد الأرض وبالأخص أبي الريحان البَيْرُوني. ولم تُنجَز إلى يومنا هذا دراسة مقارنة في هذا المجال، ولا يزال كتاب أديلارد حول الطبيعة متاحًا باللغة الألمانية فقط باستثناء بعض المقتطفات القصيرة المنشورة هنا وهناك باللغة الإنجليزية. وهذا عمل آخر مهم يفتقد إليه متحدثو اللغة الإنجليزية.

وقد عاد أديلارد مُفعَمًا بحماسٍ منقطع النظير لدراسات العرب. ولدى عودته أَعلَن أنه تعلم من أساتذته المسلمين أن المَنطِق يفوق في أهميته رأي السلطة الدينية فيما يتعلق بعلوم الطبيعة؛ وذلك لأن القدماء الذين تمكَّن فكرهم في الوقت الحالي من الوصول للسلطة، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا باستخدام ما دَلَّتهم عليه عقولهم. وفي هذا الشأن يقول أديلارد: "تَعلَّمتُ من المدرسين المسلمين أن يكون المنطق مُسيِّرًا للإنسان، بينما أَجِدُنا محاصرين برأي ذوي السلطة الذي يخنقنا خنق الأغلال للأعناق؛ وهل للسلطة الدينية وصف آخر سوى أنها غُلٌّ في الأعناق؟ فَكَما تُسَاق البهائم إلى أي مكان لا تدري ما الذي يقودها ولا لماذا تُقاد؛ ولكنها تَتْبَع الحَبْل الذي يَجرُّها فقط، يقود أرباب السلطة عددًا غير قليل منكم إلى حافة الهاوية؛ مقيَّدين ومُجبَرين على الاقتناع بأسلوب وحشي."
وبهذه الأفكار يكون أديلارد قد شق طريقًا جديدًا لم يكن معروفًا آنذاك، وهو استخدام المنطق العقلي بدلاً عن الرأي الديني. وهذه الأفكار هي أولى الأساسات التي بُنِي عليها التفكير العلمي الحديث. وتقول بهذا الشأن لويز كوتشرين: "إن أعمال أديلارد تُمثِّل مرحلة بارزة في تاريخ الفِكر". فهذه الحماسة والإيمان بالقدرة العقلية للإنسان تدل على أنه "إذا لم يكن العقل هو الفيصل، فمَنحُه للإنسان من الأساس كان عبثًا."

يبدو أن العلماء الإنجليز الأوائل قد أقروا صراحةً بالمكانة والتأثير اللذَين تبوأتهما العلوم الإسلامية. فنجد الحماس لعلوم المسلمين عند دانييل أوف مورلي بنفس الدرجة التي عايشناها في حياة أديلارد أوف باث. ارتَحَل مورلي إلى قرطبة ليَدرُس الرياضيات وعلم الفَلَك، ثم نَشَر نفائس تحصيله الدراسي، بالإضافة لكونه محاضرًا في جامعة أوكسفورد. ويُمكِن بوضوح ملاحظة إعجابه الشديد بمعارف المسلمين من خلال قراءة الإهداء الذي كتبه لِجُون أوف أوكسفورد (أُسْقُف مدينة نورتش الإنجليزية بين عامي 1175م و 1200م) في كتابه حول علم الفَلَك، الذي اقتَبَسنا الكثير منه نقلاً عن أستاذ تاريخ العرب والمسلمين في جامعة لندن تشارلز بيرنت: "منذ فترة قرَّرتُ السفر بغرض الدراسة، فمكثتُ لبعض الوقت في باريس. وهناك رأيت بُلَهَاء لا يمكن حتى أن يوصفوا بالرجال يجلسون على كراسي الأساتذة ويدَّعون أنهم ذَوو شأن. كانوا يجلسون إلى مكاتب تَئِن من وطأة مجلَّدَين ضخمين أو ثلاثة لا يمكن تحريكها، ويَرسُمون القانون الروماني بأحرف مذهَّبة. وكانوا بكل جِدِّيَّة وفي وقار شديد يُمْسِكون بأداةِ كتابة رصاصية اللون ليضعوا على النصوص التي يقرؤونها علامات النجمة (*) وعلامات أخرى تدل على وجود أخطاء. ولكني لم أكن لأرى لهم فائدة أكبر من التماثيل الرخامية؛ لأنهم لم يحوزوا أيَّ قَدرٍ من العلم. فكانوا يلوذون بالصمت آملين أن يبدوا حكماء، وإذا ما أرادوا الحديث عن أي شيء وجدتَّهم عاجزين عن التعبير بكلمة واحدة. وعندما اتضح لي أن الأمر كذلك لم أشأ أن أُصاب بآفة التحجُّر تلك منهم. فلما سمعتُ عن علوم العرب التي تتفرغ بالكامل للفنون الأربعة: الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفَلَك؛ التي ذاع صيتها آنذاك في مدينة طليطلة عزمتُ السير إليها بأسرع ما يمكن..."

ويتابع مورلي حديثه ليَذكُر أن أصدقائه ترَجَّوه ليعود من إسبانيا إلى إنجلترا، ولكن طلبهم ذلك قد أصابه بالإحباط. ولما سأله صديقه أُسقُف نورتش عن بدائع الأشياء في طليطلة؛ من قَبِيل أساليب التعليم، ودراسة حركة الأجرام السماوية، قدَّم مورلي له بحثًا مشتملاً على ما دوَّنه هناك من مشاهدات. كان القِسم الأول منه مخصَّصًا لدراسة الأرض، والقِسم الثاني لدراسة الفَلَك. ثم رَجَا من القارئ "ألَّا يَحتقِر الآراء البسيطة والواضحة للعرب، ولكن أن يُلاحِظ أن الفلاسفة اللاتينيين قد عقَّدوا الأمور بدون داعٍ، ودعاهم جهلهم إلى نسج أشياء لا حقيقة لها من خيالهم، وأخفَوهَا وراء لغة متكلِّفة. مِمَّا يُضفِي على تخبطهم الواضح في مثل هذه الأمور ستارًا من الغموض.

بحلول سنة 1180م كان دانييل أوف مورلي قد عاد إلى إنجلترا بعد اقتناعه برأي أبي معشر البلخي الذي كان يرى بأن من يعارض دراسة الفَلَك يُدمِّر العِلمَ بشكل عام. اعتمَد دانييل أوف مورلي على المسلمين ليُعارض السُّلطَة البالية للكُتَّاب المسيحيين القدامى مِثلَما فَعَل أديلارد أوف باث. ويقول الشاعر واللاهوتي الفرنسي ألين دي ليل عن أبي معشر البلخي إنه كان سيد علم النجوم بلا منازع.

ترجمة: أيمن عزت عبد الله